الجمعة، 24 أبريل 2015

شجرة النارنج التونسية

"النارنج" من حقول نابل التونسية إلى كبرى شركات العطور العالمية
"النارنج".. شجرة تعني الكثير لسكان محافظة نابل، شرق العاصمة تونس، تزين ربيع هذه المنطقة، وتتميز بزهرتها البيضاء ذات الرائحة الزكية، التي يستخرج من زهرتها أجود أنواع العطور في العالم، وتحديدا من زيتها المعروف بـ "النيرولي".
ويعود أصل شجرة "النارنج"، على أرجح الأقوال، إلى الصين، وانتقلت منها هذه النبتة إلى بلدان مجاورة اخرى، كما عرفت واشتهرت في سوريا حيث نقلها العرب من دمشق إلى الأندلس، مثلما نقلها الصينيون إلى فرنسا وإيطاليا.
وتصنف هذه الشجرة الفواحة ضمن الحمضيات، وهي تشبه كثيرا شجرة البرتقال إلا أن ثمارها لا تؤكل بل تستخدم الزيوت المستخرجة من أزهارها في مجالات عدة من الطبخ والتجميل وغيرها.
ووصف "جون بول جيرلان"، أحد أشهر منتجي ومبتكري العطور الفرنسية الراقية في العالم، في كتاب بعنوان "طرق عطوري"، صدر نهاية 2010، زيت "النيرولي" النابلي (نسبة إلى نابل) بأنه ''ممتاز''، وقال إن هذا الزيت صار من المكونات الرئيسية للعطور التي تنتجها مصانعه.
وقد أسهم الأندلسيون الذين حلّوا بتونس في القرن الـ 15 الميلادي في تطوير هذه الزراعة، وخصوصاً في مُحافظة نابل، ونقلوا إلى التونسيين طرق تقطير أزهار الشجرة لاستخراج ماء الزهر عموما، وزيت النيرولي على وجه الخصوص.
ولا يزال سكان نابل بمختلف مدنها ومناطقها متشبثين بعادة "تقطير الزهر" (استخراج ماء الزهر وزيت الزهر) منذ أكثر من 5 قرون حتى أنهم يعتبرون أن وجودهم لا يكتمل دونها، فرمزيتها كبيرة في حياتهم.
ويقول سليم الزواري، مهندس زراعي بالاتحاد الجهوي للفلاحة (مستقل) بمحافظة نابل: "حقول النارنج تغطي 450 هكتارا منتشرة بمحافظة نابل بين مناطق نابل ودار شعبان الفهري وبني خيار وبوعرقوب وقربة وتازركة، وجميعها توفر ما بين 1400 إلى 1600 طن من الزهر سنويا".
ويضيف الزواري لوكالة "الأناضول" أنه يتم تصدير نوعين من مستخرجات "النارنج" هما ماء الزهر وزيت النيرولي وهو من أجود الزيوت التي تعتمدها كبرى شركات العطور في العالم، لافتا إلى أن الكيلو غرام الواحد من هذا الزيت يصل إلى أكثر من 5 آلاف  يورو.
وأوضح أن عملية تقطير الزهر تتم بالأساس بصفة تقليدية، ولكن هناك توجه نحو تعصير (تطوير) هذه العملية إذ توجد في محافظة نابل حوالي 10 وحدات صناعية لإستخراج ماء الزهر.
وتتعدد استعمالات زهر "النارنج" عند التونسيين إذ لا يفارق بيتا مهما كان، فهناك من يستعمله في إعداد الحلويات ومن يستعمله كدواء، وآخرون يعتمدونه للوقاية من أشعة الشمس في فصل الصيف بسكب القليل منه فوق رؤوسهم، كما تستعمله الفتيات أيضا في خلطات التجميل.
وعلى الرّغم من الأهمية التي تكتسيها هذه المستخرجات بمختلف المراحل التي تمر عبرها بدءًا بكونها زهرة مرورا بجمعها ومن ثمّة تقطيرها، إلا أنها تشكو معضلة هامة، حسب الزوارري، وهي نقص اليد العاملة الزراعية وعزوف الشباب على عملية جني "النارنج"، وهو أمر يشمل تقريبا كل القطاعات الفلاحية.
ويرجع الزوارري سبب هذا العزوف إلى المردود الضئيل التي تدره هذه الزراعة على آبائهم في السابق؛ ما جعل الأبناء والأحفاد يهجرونها شيئا فشيئا.
وأوضح أن العزوف عن زراعة "النارنج" دفع وزارة الزراعة والمسؤولين الزراعيين في محافظة نابل إلى التّفكير في حلول بديلة من خلال طُرُق عصرية لجني هذه الزهور.
وبالقيام بجولة وسط حقول "النارنج" بمنطقة "دار شعبان الفهري" بمحافظة نابل حيث تنتشر هذه الأشجار بكثرة التقت "الأناضول"، عددا من العاملين الذين كانوا بصدد جني الأزهار.
وتبدأ عملية الجني بجمع الزهور في البداية، تليها عملية الفرزه ووضع كل من الأزهار والأوراق على حدة، لتدخل لاحقا مرحلة التجفيف والتقطير.
وتقول الخالة لطيفة، كما يلقبها من حولها، وهي إحدى العاملات التي كانت بصدد القيام بعملية الفرز والتي قضت قرابة 17 سنة في هذا المجال إنه "لا شيء يتلف ولا شيء يلقى فحتّى أوراق شجرة النارنج تستعمل بعد تقطيرها واستخراج مائها كمحلول للوقاية من أشعة الشمس في الصيف".
أما زوجها، عبد الكريم، فلم تمنعه إعاقته من التخلي عن شجرة "النارنج"، التي تعني له كل شيء كما عبّر لنا "فهي أمه وأبوه وهي كل شيء في حياته، فما يربطه بها أقوى وأكبر من كونها مجرد شجرة فرمزيتها بالنّسبة إليه أكبر بكثير".
ويضيف عبد الكريم في حديثه لـ"الأناضول": "لو كان هناك شباب مقبل على هذه الفلاحة لما وجدتني هنا فلدي عمل آخر، وأضعته وجئت لمساعدة زوجتي في جني النارنج والسّبب عدم وجود شباب وعمال للقيام بهذه العملية".
وقبل تقطير الزهر يتم تجفيفه طيلة يومين على الأقل حتى تفرز الزيت وتكون نكهة ماء الزهر المستخرج منه جيّدة.
ولا تكتمل هذه المراحل إلا بعملية تقطير زهر "النارنج" وهي آخر مرحلة.
وتقوم الخالة ناجية، وهي إمرأة معروفة في المنطقة يستعين بها الجميع في تقطير الزهر، بوضع الأزهار في وعاء نحاسي يستعمل للتقطير ويسمى "القطَّار" ومن ثمة تضيف إليه الماء لتقوم بتغطيته فيما بعد بطريقة محكمة.
كما توقد النّار تحت القطاّر إلى أن يغلي الماء وينبعث منه بخار يسمّى "روح الزهر".
تقوم الخالة ناجية بعد ذلك بوصل غطاء القطّار بأنبوب يربطه بقارورة بلورية تسمّى "فاشكة" (قارورة بلوريّة دائرية الشكل وذات عنق طويل يحتفظ داخلها بماء الزهر).
وتسرد الخالة ناجية باقي هذه المرحلة بالقول: "الأنبوب يمرّ عبر إناء مملوء بالماء البارد وبذلك يتحول البخار المنساب في الأنبوب إلى قطرات تسقط في الفاشكة (القارورة) إلى أن تملأ بماء الزهر، وأنه يتم تغيير ماء الإناء البارد باستمرار لتسهيل عملية تحول البخار إلى قطرات ماء".
وإلى جانب هذه العملية التقليدية في تقطير الزهر التي تعمد بالأساس إلى استخراج مياه الزهر وهي مخصصة للاستعمالات اليومية والمنزلية، هناك طرق عصرية وهي مخصصة بالأساس لاستخراج "زيت النيرولي" الذي يصدر لكبرى شركات العطور في العالم وأرقاها وتعدّ محافظة نابل من أهمّ منتجي ومصدّري "زيت النيرولي" في العالم.
ويعتبر خبراء العطور أن "زيت النيرولي" النابلي من أجود الزيوت التي تستخرج منها أغلى العطورات وتصدّر المحافظة سنويا ما بين 700 و800 كيلوجرام من هذا الزيت النادر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق